بسم الله الرحمن الرحيم
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
أبو عمار أسطورة المكان وعبقرية الزمن
في احد أحياء القدس المشبعة بعبق التاريخ؛وروح العقيدة الإسلامية ؛ووسط قرع طبول الانتفاضة الفلسطينية الكبرى؛التي عرفت بثورة البراق في آب 1929؛كان ميلاد الطفل محمد القدوة(ياسر عرفات)وتنامي وعي الطفل الصغير التي اضطرته الظروف القسرية للعيش في القدس على الثورة الشعبية الكبرى 1936 والتي زرعت في عقله الصغير أسئلة كثيرة لم تفارقه طوال حياته.
ياسر عرفات استفزته الظروف القاهرة فصنعت رجولته المبكرة وبين اهتماماته العائلية والدراسية والوطنية يتنقل بثقة ويؤدي كافة أدواره ؛لقد كان جزءا من الحدث فطالب الثانوية العامة هذا يسارع للالتحاق بجيش الجهاد المقدس الذي يقوده / عبد القادر الحسيني مقاتلا ومتنقلا بين الطرقات والصحارى لجمع الاعتدة والرجال وعندما تنجلي غيوم الحرب عن نكبة الكبرى لا ينكفئ على ذاته بل يتحول إلى طاقة غير عادية؛تحول دون تغلغل الهزيمة إلى نفوس الجموع الفلسطينية وأولهم زملائه في دراسته الجامعية ؛ولم تكن رابطة طلاب فلسطين إلا النموذج التجريبي للتنظيم المقبل الذي يقود حركة التحرر الفلسطينية .
لم يكن ياسر عرفات في سنواته العشرينية الأولى متطفلا أو طارئا على خارطة الفعل المستقبلي؛ بل التقط اللحظة بحدسه الصادق الذي لم يفارقه وبقدرته اليقينية على صنع ثورة شعبية فلسطينية لتكون حلمه ومشروع حياته وهذا بالضبط دور العباقرة من الرجال والقادة الذين يستطيعون بنظراتهم الثاقبة التأثير في مجرى الأحداث التاريخية.
ياسر عرفات لم ينطلق من أرضية وطنية لها إمكانياتها الاقتصادية والاجتماعية أو قاعدتها التنظيمية أو حلفائها الطبيعيين ؛ بل انطلق من قاعدة شعبية مشتته ومعدمه وقوى تنظيمية مشطرة ومتنافرة، ومن جوار عربي تحكمه أنظمة استبدادية بوليسية متهالكة، لكنه الرجل الذي التقط درس المقاومة الشعبية في قطاع غزة إبان العدوان الثلاثي 1956 فها هي جموع اللاجئين المحاصرة تتصدى للاحتلال بكل أدوات المقاومة.
برقت الومضة الثورية أمام عيني القائد الشجاع الذي يحلم بالثورة الشاملة وكان المشروع الوطني ثورة المستحيل 'حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح' ومنذ تلك اللحظات وهو يستجمع كل طاقات حياته.
كان يقينيا ولم يكن واهما فانطلق من القاهرة إلى الكويت فلبنان والجزائر وفيتنام وكوبا والصين.
عرفات لم ينشغل بالصراعات الأيدلوجية لم يتلهى بالبرامج بل اخذ يبحث عن المقاتلين في الأوساط الشعبية المقهورة، لكي تكسر الخوف في قلوب المقهورين فلا بد من استخدام السلاح.
فكانت البؤرة الثورية المسلحة صانعة التنظيم وليس العكس وهذه عبقرية أبو عمار وعبقرية فتح .
الفكرة الثورية المبيتة التي عمل ياسر عرفات على تطويرها وإنضاجها لتتحول فعلا إلى مقاومة في الفاتح من يناير 1965.
البت الانطلاقة العجزة المتهالكين والأيدلوجيين المتحجرين والمثقفين المترنمين وأصحاب المناصب المستبدين، فتراصوا عداوة نهجا وفكرا وعملا ضد هذه الانطلاقة الجريئة التي كشفت عجزهم وترهلهم وتكالبت كل تلك القوى وفي كافة المراحل للنيل من طهارة هذا العمل ، لكن قيادة ياسر عرفات وحركة فتح التي وثقت بها الجماهير لم تلتفت لتلك العراقيل والمعوقات.
لقد ناصبت كافة القوى الفلسطينية 'فتح' وقيادتها العداء وكانت في معظمها تنتظر ما يصدر عن ياسر عرفات وحركة فتح لتقابله بالعداوة والرفض والتشويه ، وفي ذات الوقت عملت على تقليد حركة فتح بتكوين مجموعات مسلحة تضاهي بها أعمال قوات العاصفة.
لقد كانت حرب 1967 اللحظة التاريخية الحاسمة التي أثبتت مصداقية منطلقات حركة فتح وفشل مراهنات كافة القوى السياسية الأخرى.
فتسابقت الكثير من القوى المترددة على تشكيل تنظيماتها المسلحة ولكنها لم تتوقف عن المزايدة على أداء حركة 'فتح' وعلى علاقتها الجماهيرية والشعبية ، بل عملت على تأليب الجماهير عليها واستعداء بعض الرموز الحاكمة ضدها وحتى توريطها في صراعات جانبية مع القوى السياسية العربية.
كان هم أبو عمار النجم الأكثر بزوغا في سماء الثورة الفلسطينية هو إفساح المجال أمام كافة القوى في ساحة العمل المسلح ولذا رفض ما عرف بالحل الجزائري الذي يقوم على إدماج التنظيمات المسلحة بالقوة في إطار حركة 'فتح' واستمرت الثورة والمقاومة المسلحة في الخارج والداخل بين مد وجزر وسط غابة من البنادق وكمائن الألغام . وكان الذين يستعدون النظم ضد ' ياسر عرفات وحركة فتح ' لا يجدون إلا هو يلوذون بحماه عندما تقترب سيوف الردة من رقابهم سواء أكان ذلك في الأردن أو سوريا أو لبنان ، فهو ملاذهم الأمن ومأمنهم الأخير .
أبو عمار وعلى مدى مشواره النضالي الطويل كان اليقيني الواثق ولم يوزع الوهم، كان البوصلة التي تشير إلى فلسطين ، لم يكن متوهما أو انتهازيا في البحث عن حلفائه ومناصريه، بل كان يجلبهم بطريقته إلى مناصرة الثورة والقضية ، لم يكن متعاليا أو متخوفا من خوض كافة الغمار لتقريب يوم الانتصار ، فقاد كافة المعارك بثقة واقتدار وزواج بين الفعل ورد الفعل خاض كافة المعارك بالقدر الذي يخرج بها بأكبر قدر من الانتصار أو بالحد الأدنى من الخسارة، وهذه هي القاعدة التي كان يجمع عليها ويلتقي معه وحوله كل من خالفه أو ناصبه العداء.
أبو عمار صاحب مشروع القرار الوطني الفلسطيني المستقل ، ليس بمفهوم الانعزال والافتراق ، بل لكي لا تصبح القضية الفلسطينية في ذيل الاستراتيجيات العربية المتعارضة.
أبو عمار قاتل ، تحالف وناور لتبقى القضية الوطنية في مقدمة القضايا العربية والدولية، لا يستطيع أيا كان تجاوزها أو القفز عليها أو المساومة على ثوابتها الأساسية ، أبو عمار الذي امتزجت روحه ودمائه بثرى الوطن ، رآكم الثورة المسلحة خطوات متتابعة في التكوين التاريخي للشعب الفلسطيني في عصره الحديث ، وسط صراع إقليمي وعالمي تميل فيه موازين القوى لصالح العدو الغاصب، هذا الصراع الاستراتيجي الدامي يجعل أعظم العباقرة من القادة غير قادرا على الاستمرار والبقاء، أما أبو عمار فكان قادرا على تحقيق الوجود الاجتماعي والسياسي والثقافي للشعب الفلسطيني ، بل وبيده دواعي الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم اجمع.
وفي الوقت التي كانت تنهال الشتائم والتهم السياسية والمؤامرات المختلفة حول ياسر عرفات وقيادته .
كان العدو الصهيوني والمتآمرين والمتربصين هم الذين يدركون خطورة مشروع عرفات عليهم، المتآمرون المتربصون الذين يحلمون بالعيش والنهب والثراء والسيادة على ارض الوطن، يفزعون من كل تمسك لياسر عرفات بالثوابت، إحساسا منهم بالخطر القادم .
العدو الصهيوني الذي أراد تحويل الشعب الفلسطيني وقيادته إلى مشروع استثمار محلي، يفتح أمامهم الآفاق العربية بعيدها وقريبها ، رأى في عرفات العائق الحقيقي ، وهنا اشتدت المعركة حول ياسر عرفات، قاوم ذلك الرجل الذي صمد ولم يتراجع في أحلك اللحظات، قاوم ذلك الرجل، الذي راهن الكثيرون على إمكانية خضوعه وخنوعه، قاوم ذلك الرجل ، الذي اتهم الكثيرون صموده بالتمثيلية ، قاوم ذلك الذي أصر على أن يخط لكل المناضلين سطرا في معنى المسؤولية والانتماء والوفاء.
اليوم وقد ارتقى إلى العلى قائد الثورة وعبقري هذه المرحلة القاسية.
فان من ابلغ الدروس ، ومن باب الأمانة الوطنية والأخلاقية أن يراجع نفسه كل من اتهمه بالتفريط أو راهن على ذلك وان تكف العقول الفاسدة عن تأليف التهم وتزوير الأدلة واختراع الوقائع وان يكف أصحاب البطولات الفردية عن المزاودة النضالية على مسيرة المقاومة التي قادها ياسر عرفات.
ذهب ياسر عرفات ولم يترك بيتا أو عقارا أو أموالا ، وإذا ما اعتقد أصحاب النفوس المريضة أو الضمائر الفاسدة، أنهم أكثر عداءا أو ذكاءا من العدو الصهيوني ، والولايات المتحدة ، فليدعوهما إلى كشف الأسرار المالية لياسر عرفات ، ولو كان لديه أسرار مالية لما انتظرت كل القوى المعادية حتى اليوم للكشف عن فضائحه المالية التي يتزعمونها.
لقد أغاظ تشييع الزعيم القائد أبو عمار كافة صغار القامة والأدعياء، كل الجبناء والمتحذلقين، فكانت فرنسا تصطف خلفه ومعها أوروبا والعالم، وقامت مصر الرسمية والشعبية لتحتضن وداعه الذي شهده مائة وواحد وأربعون ممثلا رسميا وشعبيا ، وأصبحت برقيات العزاء تنهال على الشعب الفلسطيني، ووقفت الدول الصديقة بعيدها وقريبها تعلن مؤازرة للشعب الفلسطيني في فقيدها الكبير.
ونحن بدورنا نودع الرئيس القائد الأب والمعلم والرمز بما ودعه شاعرنا الكبير 'محمود درويش' يوم خروجه من بيروت.
ماذا تريد ؟
سيادة فوق الرمال؟ وأنت روحنا ، يا سيد الكينونة المتحولة
اذهب...........فليس لك المكان ولا العروش// حرية التكوين أنت ، وأنت عكس المرحلة
فاذهب فقيرا كالصلاة وصافيا كالنهر في دب الحصى ومؤجلا كقرنفلة.
رحم الله الرئيس القائد والمعلم واسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون
مع تحياتي
موضوع: أبو عمار أسطورة المكان وعبقرية الزمن 
السبت أغسطس 09, 2008 2:11 pm
